علي سالم البيض: الرجل الذي قدم كل شيء من أجل الوحدة

فتحي أبو النصر :
في لحظات المرض، حين يُختبر الجسد وتنكشف الذاكرة، يطل علينا التاريخ كمرآة تذكرنا بما ننسى، وتُعيد الاعتبار لمن لم يُنصفهم الجدل أو التوظيف السياسي.
الرفيق المناضل الكبير الأستاذ علي سالم البيض، نائب رئيس مجلس الرئاسة للجمهورية اليمنية، والأمين العام الأسبق للحزب الاشتراكي اليمني، وأحد قادة الذئاب الحمر وقيادات ثورة 14 أكتوبر 1963، هو واحد من أولئك الذين يجب أن يُقرأوا بعيداً عن الضجيج، وأن يُعاد تأمل مسيرتهم كجزء من ضمير اليمن السياسي والوطني.
نعم ، لقد عاش علي سالم البيض في قلب العاصفة، وقاد بشجاعة مدهشة مرحلة من أعقد مراحل التاريخ اليمني، متكئاً على إرثه النضالي في الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن، التي كانت الحامل السياسي للثورة ضد الاستعمار البريطاني.
بل كان من أولئك الذين آمنوا بأن الاستقلال لا يكتمل دون بناء الدولة، وبأن التحرير لا يعني الاستقرار ما لم يترافق مع مشروع وحدوي سياسي واجتماعي شامل.
شغل منصب أول وزير دفاع في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ولم يكن ذلك موقعاً شرفياً، بل مسؤولية ثقيلة في زمن التحولات والانقسامات. ومع ذلك، بقي وفياً لفكرة الدولة، لا لفكرة الغلبة، ولحلم الوحدة، لا لتفوق جزء على آخر.
نعم ، هذا هو علي سالم البيض الذي سيظل حاضراً في كل نقاش جاد عن اليمن الحديث، وفي كل قراءة شجاعة لتاريخنا الذي شوهته الحسابات الطارئة.
والحق يقال إن عشقه للوحدة اليمنية لم يكن مجرد شعار، بل مشروعاً سياسياً ووجدانياً قدم لأجله تضحيات جسيمة.
وللتذكير حين جلس على طاولة التفاوض مع الرئيس علي عبد الله صالح، لم يكن يجري صفقة، بل كان يحاول تحقيق حلم ملايين اليمنيين. وفي لحظة الوحدة عام 1990، ارتضى أن يكون “الرجل الثاني” في الجمهورية الجديدة، وقال كلمته الشهيرة: “كل شيء يهون من أجل تحقيق الوحدة اليمنية.”
هذا القول لم يكن مجرد جملة، بل كان إعلاناً عن رؤية، بلغة صافية ونزيهة. لم يطالب بالامتيازات، ولم يشترط ما يعرقل الحلم. وحده التاريخ سيشهد أن البيض، رغم ما يُقال ويُكتب، لم يكن رجل سلطة بقدر ما كان رجل قضية.
نعم، نختلف أو نتفق معه، وهذا من طبيعة السياسة والتاريخ، لكن من الظلم أن يُختصر علي سالم البيض في لحظة سياسية واحدة، أو أن يُقرأ بعيداً عن سياقه التاريخي والوطني.
فالرجل الذي مثل الجنوب اليمني في لحظة الوحدة، كان أيضاً من الذين انحازوا للناس عندما رأى أن المشروع الذي شارك في بنائه يُسرق أمام أعينهم.
بعد حرب 1994، لم يعد علي سالم البيض سياسياً في السلطة، بل رمزاً في المنفى، تتجاذبه التفسيرات، ويختبئ خلفه السؤال الكبير: هل فشلت الوحدة أم سُرقت؟ وهذا سؤال لا يُجيب عليه علي سالم البيض وحده، بل تُجيب عليه التجربة كلها، بانكساراتها وانتصاراتها.
اليوم، وبينما نرفع الدعاء له بالشفاء وطول العمر، نستحضر تاريخه بكل ما فيه من نبل وشجاعة، ونتمنى أن يُمنح الفرصة ليكتب مذكراته، لا لتبرير الماضي، بل لإضاءة زواياه المعتمة. فاليمن بحاجة إلى من يتحدث بصدق، لا إلى من يصوغ الروايات على هوى اللحظة.
من هنا فإن علي سالم البيض هو رجل تاريخي شاء من شاء وأبى من أبى. رجل ترك أثراً لا يُمحى في مسيرة اليمن السياسية، وأحد صانعي أبرز منعطفاتها. وسيبقى اسمه محفورًا في وجدان الأجيال، لا فقط كقائد، بل كإنسان قدّم كل ما لديه من أجل أن يُولد وطنٌ موحد من رحم التمزق.
وإن لم يُنصفه البعض، فإن التاريخ – كعادته – سيعود ليضع الأمور في نصابها. رحم الله المناضلين الأحياء، وأطال أعمارهم، فبهم تُقاس الأوطان






